المرشحون الإسبان والصحراء.. ربما لم يكن درس سانشيز كافيا!
خلال الفترة ما بين 2004 و2018 عاش المغرب وإسبانيا فترات طويلة من الهدوء بينهما، أطول بكثير من فترات الصدام التي لا يمكن أن تفرُغ منها أي مرحلة من المراحل التاريخية للعلاقات الثنائية لبلدين محكومين قدراً بالجوار والمصير المشترك، ورغم ذلك، فإن الفترتين لا تُنسبان لتيار أو حزب سياسي بعينه، لأن الأمر يتعلق بمرحلتين مُختلفتين على مستوى قيادة الحكومة المركزية في مدريد.
أصبح خوسي لويس رودريغيث ثباتيرو، الذي كان يقود الحزب الاشتراكي العمالي، رئيسا للوزراء في إسبانيا سنة 2004 خلفا لليميني الصدامي خوسي ماريا أثنار، وفي 2011 سيخلفه زعيم محافظ، هو ماريانو راخوي، رئيس الحزب الشعبي الذي كان ينتمي إليه أثنار، ومع ذلك كان كان الاثنان يشبهان بعضهما في العديد من الأمور حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع الرباط.
اعتمد ثباتيرو وراخوي على لغة المصلحة المشتركة والبراغماتية في التعامل مع المغرب، وكانا يعلمان جيدا أن ملف الصحراء ثم ملف سبتة ومليلية أكثر ملفين يتطلبان إتقان الهدوء والدبلوماسية الناضجة للتعامل معهما، لأن "المملكة العلوية" تملك من أوراق الضغط ما يكفي لحشر المصالح الإسبانية في الزاوية، خصوصا في مجالات الهجرة والتعاون الأمني والتجارة.
وحين وصل الاشتراكي بيدرو سانشيز إلى رئاسة الحكومة سنة 2018 جاء محملا بالصور النمطية تجاه المغرب، فالسياسي الشاب الذي ترعرع في "شارع تطوان" بالعاصمة مدريد، اعتقد أن حكومته ستخرج منتصرة لو لجأت إلى الخطاب الصدامي مع جيرانها الجنوبيين، ولم يكن في نيته تقديم أي "تنازلات" للرباط، خصوصا وتحديدا في ملف الصحراء.
لكن سانشيز، الذي اضطرته نتائج انتخابات 10 نونبر 2019 المُعادة إلى التحالف مع أقصى اليسار، ممثلا في حزب بوديموس واليسار الموحد وغيرهما، عانى الأمرين إثر أزمة دخول زعيم جبهة "البوليساريو" الانفصالية إلى الأراضي الإسبانية سرا سنة 2021، وهو يرى تدفقات طوفانية للمهاجرين غير النظاميين تصل إلى سبتة، ثم وهو يعاني من قطيعة اقتصادية أضرت كثيرا ببلاده وخصوصا إقليم الأندلس.
مع كل هذا، اضطر سانشيز إلى الخضوع لما تُمليه الرباط، وهذه العبارة ليس فيها أي مبالغة، لقد كانت رسالة رئيس الوزراء الإسباني إلى الملك محمد السادس في 18 مارس 2022، التي أعلن فيها دعم مقترح الحكم الذاتي في الصحراء باعتباره الأكثر واقعية وجدية ومصداقية، مفاجأة مدوية، خصوصا في زمن تحالفه مع أقصى اليسار الداعم للبوليساريو علنا.
لماذا هذه الكرونولوجيا الآن؟
باختصار لأن الانتخابات الإسبانية السابقة لأوانها على الأبواب، ولأن منافسي سانشيز فيها على رئاسة الحكومة لا يبدو أنهم فهموا جيدا عبارةً وردت في رسالته إلى الملك، حين قال إنه يفهم جيدا ما تعنيه الصحراء بالنسبة للمغرب، لأنهم لو فهموا ذلك لما كانوا استخدموا هذا الملف مجددا كورقة انتخابية، لكسب أصوات قد تُكسَبُ بالتزامات أخرى ذات طابع اقتصادي واجتماعي.
ألبيرتو نونييز فييخو، زعيم الحزب الشعبي، هو المرشح الأبرز لخلافة سانشيز، لكنه إلى الآن لا زال غامضا بخصوص الاستمرار في الالتزام بما جاء في خارطة الطريق المُعلن عنها في أبريل 2022 إثر اجتماع الرباط بين الملك محمد السادس ورئيس الوزراء الإسباني، ويبدو الرجل وكأنه يرغب في العودة إلى مرحلة ما قبل رسالة سانشيز.
لا يريد فييخو أن تستمر القطيعة مع الجزائر، ولكنه أيضا يريد استمرار العلاقات الإيجابية مع الرباط، ويعتقد أن سبيل ذلك هو التحلل من أي التزام وضعه سانشيز على عاتق حكومة مدريد بخصوص ملف الصحراء، على اعتبار أنه كان يهم الحكومة الاشتراكية لا من سيأتون وراءها، وهو أمر قد يضع السياسي اليميني أمام امتحان الحدود والاقتصاد الذي لم يستطع سلفه إتمامه.
وفي المقابل نجد حالة أغرب، لمرشحة أقصى اليسار، يولاندا دياث، نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الشغل والاقتصاد الاجتماعي في حكومة سانشيز منذ 2020، السياسية القادمة من اليسار الموحد ذي الروابط القديمة مع "البوليساريو" والتي أعلنت بصراحة أنها ستدعم "كفاح الشعب الصحراوي من أجل تقرير المصير" إذا ما أصبحت رئيسة للوزراء.
وما يجعل حالة دياث غريبة جدا، هو أنها كانت جزءا من الحكومة خلال فترة أزمة 2021 – 2022 ورأت عن كتب تبعاتها المباشرة على أمن واقتصاد إسبانيا، لذلك، فإن اللعب بورقة الصحراء من طرفها لا يمكن إلا أن يُصنف في إحدى خانتين، إما خانة "الوعود الكاذبة" في سبيل جلب بعض الأصوات التي تبدو في أمس الحاجة إليها، وتحديدا أصوات من يعيشون وهم أن البوليساريو هي فعلا "حركة تحررية"، أو في خانة "السذاجة المُفرطة"، إن كانت هي شخصيا واحدة من هؤلاء رغم مرورها بتجربة حكومية يُفترض أن تجعلها تفهم الفرق بين النظري والتطبيقي، وبين الحقيقة والسراب.
إن مغامرة فييخو ودياث بلعب ورقة الصحراء، يُؤكد أن "القادة" السياسيين الحاليين في إسبانيا أبعد ما يكونون عن نموذجي ثباتيرو وراخوي، الذان علما أن "اللعب" مع المغرب قد يتحول إلى مواجهة جدية لا تُحمد عواقبها، لكنهم أيضا كانوا متأكدين من أن ورقة "الانفصال" أخطر من أن تتحول إلى ورقة انتخابية في بلد يعاني مع الحركات الانفصالية في أقاليم الباسك وكتالونيا وغاليسيا وكناري وغيرها.
لذلك، يُستحسن أن يراجع المرشحان اليميني المحافظ واليسارية الراديكالية تجربة سانشيز مع المغرب بمُرها قبل حلوها، ليفهما لماذا دافع سانشيز في المناظرة التي شارك فيها بداية الأسبوع الجاري، عن مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء حتى وهو في عز الحملة الانتخابية، لعله أحدهما، إن استطاع بالفعل تولي السلطة، يتمكن من تفادي تضييع الكثير من الوقت والجهد في الرهان على فرس هزيل خاسر.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :